تراجم شهداء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث
الجزء الأول
جمع وإعداد عبد القادر عبار
الاستشهاد محرك التاريخ
حكمة يعرفها الثوار...
ويجهلها الطغاة..
الإهداء
إلى الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه...ومنهم
من ينتظر... وما بدّلوا تبديلا.
...إلى شهداء الدعوة الإسلامية حيثما
كانوا... والى الذين يقتفون أثرهم على بصيرة
من الرجال والنساء والولدان...حتى
لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
...إلى صاحبة الإمضاء على
دفتر الشهادة ? السيدة? سمية بنت خياط.
اهدي هذه التراجم...
عبد القادر عبار
نشيد الشهداء
نحن للحق والإيمان جند مسلمون
نحن لا نخشى أذى الظلم ولا ريب المنون
عزة الإسلام في الأنفس تأبى أن تهون
وترى أن المعالي للميامين تكون
فابتسم يا موت للأموات وابكي يا سجون
هلّل الفتح المبين ..يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين.. رددوا الله اكبر
نحن إن نسجن و إن نعدم فجنات النعيم
هي مأوانا وأهل البغي في نار السموم
فاملاوا الأرض لهيبا يا طواغيت الجحيم
واستعينوا بالمنايا...... مرتع الظلم وخيم
حسبنا أنّا على شرع النّبي المستقيم
هلّل الفتح المبين ..يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين.... رددوا الله اكبر
ستة نحن مهرنا المجد لا نبكي الحياة
وارتضينا الموت في ظل الأماني الناضرات
فارتقي يا دولة الظلم وعيشي سنوات
إن أمر الله آتيك مع الهون بيات
وارقبي إن دمانا لعنة فوق الطغاة
هلّل الفتح المبين...يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين ... رددوا الله اكبر
* للشاعر الأستاذ ?عدنان قيطاز ..نشرت بمجلة الشهاب السورية عدد11 عام 1955
أخرجها الأستاذان حسني الجرار واحمد الجدع في المجموعة الأولى من أناشيد الدعوة ص 93
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له الأول والآخر .. الظاهر والباطن .. وهو على كل شيء شهيد. واشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وترك المسلمين المؤمنين على الحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع نهجه على بصيرة وعاش على سنته.
( أ)
عندما جالت بخاطري فكرة تأسيس هذا المشروع اعني وضع هذا الكتاب حول تراجم شهداء وشهيدات الدعوة الإسلامية في العصر الحديث.. أحسست بقشعريرة تسري في بدني إذ عندها فقط أدركت بعمق وأسى بالغين فظاعة ونذالة وجريمة شنق وإعدام إنسان ما من اجل فكره ودينه... وألفيتني أتساءل
- بأي حق يطلق الرصاص على رجل تقي ومواطن صالح ... كحسن البنا ؟
- بأي حق يشنق مفكر عملاق كسيد قطب ? مفجر الفهم الحركي للقرآن ومؤسس نظرية التصوير الفني في القرآن ... على حبل المشنقة كما يعلق صعاليك المجتمع وقطّاع الطرق؟
- بأي حق يقتحم صعاليك المخابرات بيتا آمنا ويفرغون الرصاص على راس امرأة عزلاء تستعّد للصلاة .. كبنان العطّار.. بينما عاهرات القصور وفاجرات العلب الليلية .. يسرحن آمنات في ربوع الأوطان ؟
وعندئذ- أقولها بصدق وعمق- .. أيقنت أن يوم القيامة طويل وطويل جدّا وأدركت بفراسة المؤمن ويقين المسلم كم هو رهيب ذلك اليوم وكم هو مشحون بمفاجآت لا تسر الظالمين... حيث تقف سمية بنت خياط تدين أبا جهل. وحسن البنا يدين فاروق ورعاعه... وسيد قطب يدين جمال عبد الناصر.. وآخرون وآخرون غيرهم ... كلهم موقوفون للقصاص العادل أمام الحكم العدل .. والوزن يومئذ الحق وشعار الجلسة لا ظلم اليوم.. وملفات البحث مختومة بأمانة وليست هناك فرصة للاستئناف ولا التعقيب..
انه يوم التغابن الحق.
(ب)
وانه لمن تضييع الأمانة أن يعدم الصالحون ويشنق الدعاة ويذبّح العلماء ...ثم نتناساهم بطريقة أو بأخرى .. وتشغلنا هموم صغيرة وتفاهات سخيفة عن تسجيل تراجمهم ولا نحتفظ بصورهم للعبرة والذكرى والتاريخ ... حتى تعلم الأجيال اللاحقة ويدرك الناس عامة أن النصر والتحرير والإصلاح والتغيير مرّ على جماجم الرجال ووقّعت على حتميّته دماء الشهداء... ولم يحصل من خلال "دعاء مكبوت في زاوية" أو " تفاعل كيمياوي في مخبر المفاجآت" أو عن طريق هبة شرقية أو غربية.
وإنّما رسمته أنّات المعذّبين في المعتقلات ولوّنته دماء المذبوحين وعطّرته دموع الأرامل والأيتام وصبر المشنوقين على ضغط الحبال وشماتة الجلاّدين وصدق شوقي في صيحته حين قال ?
وللحريّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقّ..
ويقول الدكتور المجاهد عبد الله عزّام ?
" إن تاريخ الأمم يجري بقدر من الله على أيدي أفذاذ يسطّرون بدمائهم ويشيدون بمواقفهم وصلابتهم أمجاد الأمم وحصون عزّتها. وقد بدأت صناعة التاريخ الإسلامي جليّة في أفغانستان .. فبدأت معاقل الإسلام حديثا ترتفع ولكن بالجماجم لا بالحجارة والطوب ( وسائل الإنتاج..)... وكان المجاهدون الأفغان جزءا من قدر الله لهذه الأمة التي بدأت تنهض من كبوتها وتستيقظ من سكرتها وترتفع من مستنقع وهدتها وارتكاسها.
والأمم تحرص على كتابة تاريخ أفذاذها لتربية مقبل أجيالها. وبناء الناشئة من أبنائها على القيم التي ضحّى من اجل غرسها أبطالها. وافضل طريقة لتربية الأجيال هي تدريسها تاريخ أمجادها من خلال سير مصلحيها وقادتها وأبطالها.. فنحن نتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقتبس من النور الذي جاء به ونسير على هدى أصحابه ونقتفي أثرهم ? "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ".
وكلما كانت الأمثلة شاخصة حيّة وأحداثها ساخنة جديدة فإن وقعها في القلوب يكون اعمق وأثرها في النفوس وتوجيهها اشد وأقوم... وذلك لأن الشواهد الحاضرة دوافع ومحركات للقلوب أن تتشابه وتباري..
"والكلام عن الشهداء فرض من رب العالمين لأنه جزء من التحريض على القتال الذي افترضه الله على كل مسلم فكم من القلوب الميتة أحيتها قصص الشهداء وكم من الشباب قد وفدوا إلى الجهاد بقراءة قصة شهيد... وكم من تائه ردّ إلى الله وكم من فاسق آب إلى ربه..."(1)
(ج)
ويأتي هذا المشروع من باب بعض الوفاء للشهداء... وتسديدا لبعض الدّين الذي في أعناقنا تجاه رجال ونساء بذلوا أرواحهم.. وتحملوا التعذيب والشنق والذبح من اجل التحرير والإصلاح والتغيير.. في إطار عودة الحق .. وتحقيقا لقيّوميّة هذا الدين / الرحمة.. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولست ادعي أني جمعت فيه كل تراجم الشهداء أو تحدثت فيه عن كل تفاصيل حياتهم وجهادهم ومعاناتهم.. إن مشروعا كهذا اعتقد انه لا يقوم بحقه على الوجه الأكمل والأنجع.. إلا مؤسسة... وما خطوتي هذه إلا مجرد لبنة في الجدار. بانتظار انبعاث هذه المؤسسة التي نطالب بها الحركة الإسلامية التي تمتلك من الكفاءات والطاقات والإمكانات ما ييسر إنجاز هذا العمل / الثغرة في جدار المكتبة الإسلامية والذي يمكن أن نسميه " موسوعة تراجم شهداء الدعوة".. تقدّمه كبعض الواجب الذي يطالبها به شباب الصحوة والرأي العام الثقافي الإسلامي ... والتاريخ.
(د)
وبما أن هذه الخطوة جهد فردي / بشري بكر .. فانه لا يخلو من عثرات ونواقص ...وبخس لهذا الجانب أو ذاك... وتكلّف لهذا الجانب أو ذاك..وأقولها بصراحة إني لست اكثر من "جمّاع" في هذا الكتاب .. ظللت أتتبع الشذرات والنّتف وأطارد القصاصات والمجلات.. والكتب التي اعرف فيها كلاما عن هذا الشهيد أو ذاك.. فربما نقلت الفقرة كاملة وربما تصرفت بعض الشيء في هذه الفواصل أو تلك.. إلا أني حرصت على أن تكون المادة المنقولة والمتصرف فيها .. تفرز في نهاية الإخراج صورة واضحة فيها ملامح الشهيد الرئيسية.
وعليه فرجائي ممن أخذت من مؤلفاتهم وتصرفت في أعمالهم في هذا الباب أن يعذروني سلفا.. على الأخذ دون استئذان مباشر..
قد بدا لي أن اصدّر الملف بنشيد الشهداء للأستاذ الشاعر "عدنان قيطاز" ثم خلاصة حول الشهادة والشهداء في ظلال القرآن والسنّة .. والفقه .. وجعلت الباب الثاني خاصا بالحديث عن بعض الرواد الأوائل الذين رسموا الطريق ... وسبقوا بالتوقيع على دفتر الشهادة .. ومن المفاجأة أن تكون على راس القائمة "امرأة" رشحتها مشيئة المولى سبحانه للصّدارة والإمارة في قوافل الشهداء.. وفي ذلك صفعة نووية إن صحّ التعبير على خدّ اليسار الغربي الذي ما فتئ يعيّر المشروع الإسلامي باضطهاد "الأنثى" ويجعل من مقولة "الحريم" و"المرأة الجسد" و" المرأة العورة " إلى آخر القائمة الممجوجة .. علكة إعلامية يمضغها أناء الليل وأطراف النهار.. وحيثما حلّت به قدم بقصد تدنيس صورة الحركة الإسلامية وتنفير الرأي العام من مشروعها / الرحمة.
وأما الباب الثالث فخصصته للحديث عن الرموز التي استشهدت في سبيل الله من اجل التحرير الوطني والإصلاح العام والاستقلال.
وجاء الباب الرابع خاصا بشهداء الدعوة المعاصرة ... ابتداءا من رمزها الأول الإمام الشهيد حسن البنا ... مع التمهيد حول الصراع المعاصر ومعاناة الدعوة الإسلامية....
وبهذا ينتهي الجزء الأول في انتظار تجميع بقية التراجم لبقية رموز الشهداء لاستكمال الجزء الثاني بإذن الله تعالى .
وأسأل الله سبحانه أن يبارك في هذه الخطوة و أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.. و أن يتقبّل شهداء الإسلام بواسع رحمته وكريم عفوه و أن يرزقنا الشهادة في سبيله.. انه نعم الولي ونعم النصير..
وسبحانك اللهم وبحمدك .. اشهد أن لا اله إلا أنت.. استغفرك وأتوب إليك..
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
عبد القادر عبار
غنّوش في
18 ذو القعدة 1409 / 22 جوان1989
المحتوى العام
مقدمة
إهداء
نشيد الشهداء
*الباب الأول
آيات الشهادة والشهداء في المصحف الشريف
الشهداء في ظلال القرآن
الشهداء في ظلال السيرة
شهداء الأمة من خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
حكم الشهيد في الفقه الإسلامي
صورة الشهيد في شعر الدعوة
*الباب الثاني
الروّاد الأوائل ? سمية بنت خياط .. شهيدة النساء
خبيب بن عدي .. شهيد الشباب
عمر بن الخطاب .. شهيد المحراب
عثمان بن عفّان .. شهيد القرآن
علي بن أبي طالب .. شهيد الوحدة الإسلامية
سعيد بن جبير .. شهيد الفقهاء
*الباب الثالث
شهداء الإصلاح والتحرير الوطني ? احمد بن عرفان .. شهيد الهند
عبد الرحمان الكواكبي..
عز الدين القسّام .. شهيد القضية
عمر بن المختار .. شيخ الشهداء
*الباب الرابع
شهداء الدعوة الإسلامية
مقدمة عن الصراع المعاصر ومعاناة الدعوة
الإمام الشهيد .. حسن البنا
شهيد المفسرين .. سيد قطب
شهيد الميز العنصري .. مالكولم اكس
الباب الأول
1) آيات الشهادة والشهداء في المصحف الشريف
2) الشهداء في ظلال القرآن
3) الشهداء في ظلال السيرة
4) شهداء الأمة من خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
5) حكم الشهيد في الفقه الإسلامي
6) صورة الشهيد في شعر الدعوة
1) آيات الشهادة والشهداء
أ) الترغيب في الشهادة
(( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم لمغفرة من الله ورحمة خير ممّا تجمعون)) ( آل عمران الآية 157)
((ومن يقاتل في سبيل اله فيقتل أو يغلب فسوف نوتيه أجرا عظيما )) (الآية 74 النساء)
ب) الوعد والبشرى
(( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة والإنجيل والقرآن.. ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم..)) (التوبة)
(( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم أتدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب )) ( الآية 195 آل عمران)
(( والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرّفها لهم.)) (الآية 4 محمد)
ج) المقام والثواب
((لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)) ( الآية 154 البقرة)
(( ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل و أن الله لا يضيع اجر المؤمنين)) (الآية 169 آل عمران)
2)الشهداء في ظلال القرآن
(1)
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته
من المقاومات وتثبيط الهمم وما يقوله لهم الناس في ذلك. وما يقوله الضعفاء في أنفسهم ? كيف نبذل هذه النفوس ونستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كان المؤمنون يسمعونه من المنافقين والكافرين. وربما اثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطؤوا النصر.. فعلمهم الله سبحانه ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ومقاومة الشبهات والوساوس.. فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة ثم ذكر اعظم شيء يستعان عليه بذلك وهو القتل في سبيل دعوة الحق وحمايته. ذكره مدرجا في سياق تقرير حقيقة ودفع شبهة فقال (( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات..)) أي لا تقولوا في شأنهم هم أموات بل أحياء في عالم غبر عالمكم ولكن لا تشعرون بحياتهم إذ ليست في عالم الحسّ الذي يدرك بالمشاعر(1)
(2)
..وكان في ذلك الوقت كانت الجماعة المسلمة مقبلة على جهاد شاق لتقرير منهج الله في الأرض ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ولتسلم رايته والسير في الطريق الشاق والطويل.. فكان القرآن يأخذ في تعبئتها تعبئة روحية وفي تقويم تصوّرها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ومن تضحيات وآلام . وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديرا صحيحا ((ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ))
.. إن هناك قتلى سيخرّون شهداء في معركة الحق شهداء في سبيل الله قتلى أعزّاء أحبّاء قتلى كراما أزكياء فالذين يخرجون في سبيل الله والذين يضحّون بأرواحهم في معركة الحق هم عادة اكرم القلوب وأزكى الأرواح واطهر النفوس هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا .. انهم أحياء فلا يجوز أن يقال عنهم أموات لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان .. انهم أحياء بشهادة الله سبحانه فهم لا بد أحياء.
انهم قتلوا في ظاهر الأمر وحسبما ترى العين ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررها هذه النظرة السطحية الظاهرة . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من اجله فاعلية مؤثرة والفكرة التي من اجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم تقوى وتمتد. فهم ما يزالون عنصرا فعّالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها وهذه من صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس ثم هم أحياء عند ربهم إما بهذا الاعتبار وإما باعتبار آخر لا ندري كنهه وحسبنا إخبار الله تعالى به ( أحياء ولكن لا تشعرون) لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود.. ولكنهم أحياء (2)
(3)
... ثم لا بد أن تكون هذه الحياة حياة خاصة غير التي يعتقدها جميع الملّيين في جميع الموتى والمعتمد عند الإمام محمد عبده في هذه الحياة إنها حياة غيبيّة تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس بما يرزقون وينعمون ولكننا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون فيها ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوّض الأمر فيه إلى الله تعالى.. (3)
(4)
...أحياء ومن ثم لا يغسّلون كما يغسّل الموتى ويكفّنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء فلا يشق قتلهم على الأهل والأحياء والأصدقاء.. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحبّاء والأصدقاء.. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ولا يتعاظمها الأمر ولا يهولنّها عظم الفداء (4)
(5).. يكشف القرآن عن مصير الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله . وليس هناك شهداء إلا الذين قتلوا في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى مجرّدة من كل ملابسة أخرى. فإذا هؤلاء الشهداء أحياء لهم كل خصائص الأحياء . فهم يرزقون عند ربهم وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله وهم يستبشرون بمصائر من ورائهم من المؤمنين وهم.... الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم .. فهذه خصائص الأحياء من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عند ربهم من الرزق والمكانة. وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوّراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه والتي يعتبرونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة . ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله.
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في جلاء الأمور إنها تعمل بل تنشئ إنشاء تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها وهي موصولة لا تنقطع فليس الموت خاتمة المطاف بل ليس هناك حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين واستيعابهم للموت والحياة وتصورهم لها هنا وهناك.
(( ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. ))
والآية نص في النهي عن حسبان الذين قتلوا في سبيل الله وفارقوا الحياة وبعدوا عن أعين الناس أمواتا. ونص كذلك في إثبات انهم أحياء عند ربهم ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات وصف ما لهم من خصائص الحياة فهم يرزقون ...